«مزرعة الأصدقاء» لخوشناف ظاظا.. بلاغة استنطاق الدُّمى\r"تشرين "

«مزرعة الأصدقاء» لخوشناف ظاظا.. بلاغة استنطاق الدُّمى

نُصادفه باستمرار في المسرح، مرَّةً فوق الخشبة بأدوار قد لا يتعدى بعضها الدقيقة الواحدة، وأخرى في الكواليس كمساعد مخرج، أو مدير منصة، ومرَّات في رُدهات «أبو الفنون»، بالمعنى المجازي والحقيقي للكلمة، إذ نتّصل أحياناً بمديرية المسارح فيردُّ علينا بصفته المُنسِّق الإعلامي الجديد، وأخرى باعتباره المُفوَّض بتسيير أمور الموقع الإلكتروني، ولن نستغرب إن وجدناه يقطع التذاكر، أو يقود زوار المسرح إلى أماكن جلوسهم في الصالة… كل ذلك مُتاح بالنسبة إليه مادام يبذل جهداً في خدمة أبي الفنون. إنه «خوشناف ظاظا» ذاك الشاب النحيل الذي استشرفنا به خيراً عندما قرأنا اسمه كمخرج لمسرحية «مزرعة الأصدقاء» التي قُدِّمت على مسرح العرائس قبل وأثناء العيد، وصَدَقَ توقُّعنا، فرغم الأسماء المُشتغلة بهذا النوع منذ سنوات، لكن «ظاظا» استطاع في عرضه أن يُثبت أنّه هاوٍ حقيقي، ويمتلك رؤية واضحة لما يريد تقديمه، إذ منذ اللحظات الأولى تبدّى فهمه العميق ونفاذه إلى الجوهر، سواء من ناحية تنويعات حركة الدُّمى في مستويات الخشبة المتعددة، إلى إنشاء وحدة أسلوبية مُتَّسقة لتحريك الدُّمى مع تحقيق صلات وثيقة فيما بينها، وبينها وبين جمهور الأطفال، بالتناغم مع الموسيقا والإضاءة والديكور. فلا شيء مَرَّ في «مزرعة الأصدقاء» من دون أثر، ولا من تفصيل لم يتم التفكير به، مهما كان بسيطاً.مزرعة الأصدقاء
قصة العرض تحكي عن تعاضد الإنسان مع شركائه في الحياة، من بني جنسه ومن الحيوانات، بغية الوصول إلى الحقيقة، والبنية الدرامية لها كانت تتنامى منذ المُقدِّمة التعريفية بشخصيات العمل الرئيسة، صاحب المزرعة وزوجته، الدجاجة والديك والكلبة والحمار، ويُحرِّكها على التوالي زهير البقاعي، روجينا رحمون، آلاء عفاش،  كامل نجمة، روعة شيخاني، اسامة جنيد، لتبدأ المُنَغِّصات بالظهور شيئاً فشيئاً، ولاسيما بعد اختفاء الصيصان وعدم معرفة مكانهم، تُتَّهم البومة (حرّكها: مالك الفواز) بسرقتهم، لنكتشف بعد ذلك براءتها التي تعزَّزت بممارسات الفئران في تخريب القنّ، وبعدها تعود الصيصان (حرَّكهم، عصام الحمدان) من دون أن نعرف سبب غيابهم الحقيقي.
رغم الخلل الطفيف في سيرورة الحكاية، التي لم يشر بروشور العرض إلى اسم كاتبها، ولا نعرف إن كانت مستلهمة من حكاية ما، أو إنها من تأليف «ظاظا» نفسه، لكن العلاقة مع أطفال صالة مسرح العرائس بقيت مشدودة ومتينة، ولاسيما من خلال الضبط الدقيق لإيقاع العرض والتنويع بين سرد الحكاية عبر الشخصيات وأفعالها، والأغنيات التي تعزز مسار القصة، فالخطاب المُراد إيصاله من خلال «مزرعة الأصدقاء» تحقق بنسبة كبيرة، إذ برزت أهمية التكافل بين الأصدقاء للوصول إلى الحقيقة، لكن رغم نهي شخصية صاحب المزرعة المُتكرر عن الضرب كوسيلة لعلاج المشاكل، لكن استخدام عبارات من مثل «يا كلبة» و«يا حمار» كانت مُستهجنة، رغم أن المقصود بها في الإشارة إلى شخصيات العرض، لكن السياق الذي تضمَّنها يوردها على أنها شتائم، وكان من السهل التغاضي عنها واستبدالها بعبارات أقل استفزازاً، وأبعد ما تكون عن مرجعيتها المُتعزِّزة للأسف ضمن الذاكرة الجماعية، حتى للأطفال.
استطاع محركو الدُّمى أن يستنطقوا دُماهم من دون كلام، إذ بلغوا درجة كبيرة من إتقان التحريك، وصلت في بعض الأحيان، إلى بلاغة درامية عالية، خاصةً مع التَّوظيف المتميز لموسيقا وألحان«أيمن الزرقان»، وإضاءة «نصر سفر» المُتناسبتين مع التصعيد الدرامي، حتى أن مشاعر الحزن غمرت عيون الأطفال المتابعين للعرض إثر فُقدان الصيصان ونُواح أمهم الدجاجة عليهم، لكن «ظاظا» استطاع تحويل مشاعرهم بسرعة إلى فرح مع تعزيزه لمجرى الحكاية وتكثيف مراحل الوصول إلى الحقيقة، وما كان ذلك ليتحقق لولا البراعة في تصنيع دمى العرض التي صممتها «هناده الصباغ» التي رغم عدم تناسب حجوم الحيوانات فيما بينهما، وبينها وبين دُمى البشر، لكنها أدَّت المطلوب منها، بالتناغم مع الديكور وذلك لتحقيق انتقال سلس بين المنزل والمزرعة بكل ما تحويه من قن وأشجار وسياج…
مستوى آخر من التلقي حققه «ظاظا» بإخراج الدّمى ومُحرِّكيها من وراء منصة التحريك إلى أمامها، وتنقُّلهم بين مقاعد المتفرجين كاسرين بذلك الحاجز بين الحضور وبين عالم الدمى الخاص، عبر لمسها ومداعبة خيوطها،  وكان ذلك اعترافاً من الأطفال الحاضرين بأنهم باتوا أفراداً جُدُداً في مزرعة الأصدقاء ذاتها.

Copyright © theater.gov.sy - All rights reserved 2024