تشرين
03/11/2014
المسـرح بصفته وطناً.. «هوب هوب» عجاج سليم.. دراماتورجـيا الهويـّة
الكتابة على الخشبة، العيش المستمر في زمن البروفا، وتوطين الحكاية وجعلها راهنة، هو ما اشتغل عليه الدكتور عجاج سليم في مسرحية «هوب هوب» التي افتتح عرضها السبت الماضي على خشبة مسرح الحمراء مع الكاتب «جوان جان» وفريق العمل من أجل إعادة صياغة «الجزيرة القرمزية» للروسي ميخائيل بولغاكوف، ووضعها في سياقات جديدة تتلمس طريقها نحو الحاضر المستمر لتكون أكثر بلاغة وقدرة على التأثير.
يبدأ العرض بما يشبه دراما تاريخية بلغة فصحى تترجم أحداثاً غريبة عن جزيرة مفترضة مملوءة باللؤلؤ، وطمع بعض التجار في الاستفادة من عدم معرفة قاطني الجزيرة بقيمة ما يصطادونه. لنكتشف أننا أمام تقنية «ميتا مسرح» في نهاية أحد العروض التي يحضرها متعهد حفلات غنائية وصديق المخرج ونتيجة إعجابه بالمسرحية يستطيع أن يقنع صديقه وفريق عمله بالسفر معه إلى أمريكا لتقديم مجموعة عروض هناك. لكن ذلك يستتبع إجراء الكثير من التعديلات على النص لتتناسب مع الجمهور الأميركي وتوجهاته، وهذا يضعنا أمام دراماتورجيا حية ومباشرة على الخشبة، فعلى الممثلين ألا يظهروا طمعهم باللؤلؤ كي لا يعطوا صورة عن طمع السوريين بالثروة، وعليهم أن يرفقوا صفة التكفيري بالزنديق وغيرها من التعديلات التي شكلت الكثير من المواقف الكوميدية، لاسيما في ظل معارضة كاتب النص الأساسي محب اللغة العربية الفصحى والمنتسب إلى اتحاد الكتاب العرب، والممتن للمخرج لاختياره نصه ليقدمه مسرحياً بعد أكثر من 40 نصاً بقيت سجينة إصدارات الاتحاد ووزارة الثقافة من دون أن ترى النور على خشبات المسرح السوري.
ولا تتوقف التنازلات عند المؤلف بل تتعداه إلى الممثلين الذين باتوا يوازنون انفعالاتهم وردود أفعالهم تجاه الأحداث الدرامية الجديدة وفق رغبة المنتج والمخرج الراغب بالحصول على الأضواء في المسارح الأمريكية، وما يستتبعه ذلك من مكافآت مادية مرتفعة، لنجد أن العرض المفترض فَقَدَ هويته الأساسية المناهضة لأمريكا، وبات أقرب إلى التهريج بفعل انفلات عناصر العملية المسرحية ككل، حيث تم التخلي عن مقولاتها الأساسية، وباتت شخصياتها مهزوزة وغير مبنية على أسس درامية صحيحة، لدرجة اقتربت من الكاريكترات الهزلية، تردد جملها دون تبنٍ حقيقي، كما حدث مع إحدى الشخصيات التي تسخر من كلمة الوزارة المُوحّدة على جميع بروشورات العروض المسرحية من أن «المسرح أبو الفنون، إنه يحلِّق عالياً، فيحترق بنور طموحه...».
ذلك على العكس تماماً من العرض الأساسي «هوب هوب» حيث إن كل شيء فيه منضبط ومدروس، وتمت فيه الموازنة الدقيقة بين مناخين مسرحيين، الأول: واقعي خارجي يصور بروفا مسرحية حية، والثاني: مفترض داخلي ينصهر ضمن الأول ويشكل أساساً لإبراز الكثير من المفارقات فيه.
بين البروفا الحية والكتابة المستمرة على الخشبة التي حققها المخرج «سليم» مع فريقه، والأخرى التي عمل عليها المخرج «جسده كفاح الخوص» مع المنتج وبقية عناصر العمل ثمة مفارقة أساسية في كيفية «القول المسرحي»، والرؤية الدراماتورجية للعرض، فبينما تُعاد صياغة الأخير بناء على رغبات المنتج ووفق ما يرضي جمهوره الموعود في أكثر من ولاية أمريكية- كما يحصل في الدراما التلفزيونية- يُصرّ عرض «هوب هوب» على قراءة متأنية لجميع مفرداته وخلق توازن حيوي بين مناخين مختلفين، الأول متفاصح قريب جداً من الدراما المدبلجة بالفصحى، بينما الثاني متخفف من كل ذلك ويحافظ على حميمية علاقته مع الجمهور من خلال تضمين أحداثه لطزاجة تتعلق بالواقع الآني الذي نعيشه.
اثنا عشر ممثلاً على الخشبة وبين جمهور مسرح الحمراء، استطاعوا خلال ساعة ونصف من زمن العرض أن يحيلونا إلى أكثر من زمن محققين الكثير من المتعة عبر التنقل بين الشخصيات التي ساهموا في بنائها على جميع الصعد، فـ«محمد حمادة» ممثل وعاشق متروك ومتعاطٍ للحشيشة بسبب خيبته العاطفية، يصل أكثر من مرة لضرب المنتج الجاهل والمتحذلق. «مالك عبده» ممثل مصرّ على لكنته الحلبية حتى ضمن حديثه باللغة الفصحى، وهو منافس قوي لزميله «مهران نعمو» وما يستتبعه من صراع على الأضواء المسرحية، «كفاح الخوص» المخرج الواعي لعمله لكن الطامع بالعرض ليس في المحافظات وإنما في أمريكا، ورغم وعيه المسرحي إلا أنه يعطي تعليماته ليصبح عرضه المهاجر أقرب إلى مسرحيات الطلائع منه إلى عرض محترفين.
«أسامة الحفيري» المتعهد الفني صديق المخرج الذي يفرض الكثير من التعديلات على النص بناء على أجندة أمريكية دون الأخذ بالحسبان لأدنى درجات الوعي المسرحي، فمثلاً يطلب استبدال صناديق النبيذ الذي يأخذها سكان الجزيرة الأصليين مقابل أطنان اللؤلؤ إلى آلاف الصناديق من «البيبسي» لأنها تستطيع جذب «سبونسر» إعلاني للعرض في أمريكا. «محمد خير الجراح» المؤلف الذي يعاني من تأتأته ومن ثقل التغييرات التي يجريها المخرج والمنتج على نصه ورضوخه لها على مضض، ليصل به الأمر إلى أن يعلن رفضه التام لكل التعديلات، ونتيجة هذا الموقف يتخلى المخرج عن دماثته المعهودة ويتحول إلى مستبد في وجه الكاتب الذي سيُخرِّب عليه حلم السفر، ليس إلى الشارقة- كما يقول «الخوص»- وإنما إلى الولايات المتحدة الأمريكية. لكن المفاجئ بالنسبة إليه هو تضامن الكثير من الممثلين مع الكاتب وانسحابهم من العرض الجديد، ورفضهم للمنحى الذي آل إليه مع تغير مضامينه الأساسية.
«مسرح داخل المسرح» تتضافر فيه البساطة مع عمق الرؤية وفق ورشة عمل مفتوحة تحكي عن آلية إنتاج العرض المسرحي وكيفية تحديد رسائله وهويته العامة وما هي المؤثرات التي تلعب دوراً في تغيير تلك الهوية والمسؤولين عن ذلك، في إحالة تنطلق من خشبة المسرح باتجاه الوطن، وكأنها مزيج أصوات تصرخ في وجه الحرب: «أوقفوا الحرب.. أوقفوا الحرب.. نريد أملاً بدلاً منها».