مغامرة لافتة يخوضها الفنان جمال تركماني في عرضه «حساسية عالية» الذي عرض مؤخراً على مسرح الحمراء، فالعمل الذي جاء احتفالاً بيوم الرقص العالمي يقترح مستويات عدة للقراءة؛ متجاوزاً مسرحيات الرقص الصرفة إلى مفهوم العروض البصرية التي تمزج بجرأة بين الشاشة والجسد؛ بين اللوحة والموسيقى، فليست الفرجة هنا شيئاً إن لم تتعدد وتختلف من كرسي متفرج إلى آخر؛ فرجة تتجاوز أيضاً نفسها إلى مفهوم المشاهدة؛ من دون أن يكون الرقص وصيفاً للدراما؛ بل الحركة هنا هي بطل درامي مطلق.
العرض الذي أنتجته «مديرية المسارح والموسيقى» جاء إهداءً لروح الكوريوغراف الراحل «لاوند هاجو -1976- 2008»، الراقص السوري الذي كرّس عبر العديد من العروض التي صممها مع فرقته «رماد» تقليد الاحتفال بعيد الرقص العالمي الذي كتب كلمته هذا العام الراقص الكندي « لوكا ليزيلغز بوتشيللي» معنوناً إياها بعبارة «أرقص لتكون».
يأتي اليوم «حساسية عالية» بمثابة تحية لفن الجسد؛ واستمرارية لما يبدو بذرة من بذور حداثة ثقافية تنمو في زمن الحرب. هكذا اختار المخرج «تركماني» حلاً ذكياً كالرقص خلف الشاشة، وبمشاركة ستة راقصين هم: «ريم شحادة؛ ماهر يوسف، مروه عثمان، محمد كمحة، مروة العيد، ملاك العيد» تمكنوا من تحقيق ما يشبه متتالية حركية - بصرية لكتل بدت وكأنها تطفو على ركام من خراب المدن التي دمّرتها الحرب.
هذا الرقص بين الأنقاض لم يتباه بالتقنية على حساب الجسد؛ بل سعى إلى توظيف المادة البصرية لمصلحته؛ ووفق سرد هادئ للحكاية المجسدة، وعبر إيماءات خافتة مهدت للحركة ودفعتها إلى النفور، والتمادي أكثر في بوحها الخاص.
سيتقدم الراقصون بعد قليل وفق ثنائيات حركية لا تعتمد على إيجاز في الأفعال، بقدر ما تركز على تكرار الجمل الراقصة في كل مرة، لكن بشكل مختلف، يوحد فيما بينها ويجعلها ممسوسة بما تحمله من أفكار ومونولوجات عن ضجيج الحرب في رؤوس الراقصين، وغلبة صوت البنادق على صوت حفيف الأجسام الحالمة. ‏
إنها لحظة معاصرة إلى حد الكآبة، يسوقها العرض، مستعيناً بصور لأطفال يصعدون نحو سماء المغفرة مع بوالينهم الحمراء كقلوبهم المطعونة برصاص الحرب؛ فمنذ البداية لن يستمع الجسد إلى موسيقى ملحنة أو مسجلة في استوديوهات ضخمة، إنها موسيقى قام كنان حسني بتوليفها؛ جنباً إلى جنب مع المادة الفيلمية اللافتة التي حققها طلال لبابيدي؛ فالعرض افتتح أنساقه هذه مع مراوحات أفقية، مشي، مجرد مشي على الخشبة؛ فالرقص هنا ما هو إلا فكرة متخلّفة عن الطيران، برغم أنه أي «الرقص الحديث» يركز على فكرة الالتصاق بالأرض، متضاداً بذلك مع المدارس الكلاسيكية لرقص الباليه الروسي؛ والانطلاق من الأرض إلى الحركة، ثم العودة كل مرة إلى التمسُّح بها وعناقها. ‏
رقص أرضي وملامسات ماهرة لعناقات خاطفة، يتقصدها « تركماني» الذي شاركه الفنان أحمد جودة في مهمة الكريوغراف؛ إلا أن العرض لم يطمح إلى تحقيق شعورٍ بالدرامية، مغيباً السرد الحركي التقليدي، بل حاول تفنيد احتجاجاته على زمن الدم، أجسام تطفو فوق عصفها السوري المأكول؛ سعت هي الأخرى إلى توحيد الحركة من خلال الاعتماد على مقاربات راقصة هنا وهناك؛ بررت بدورها الكتل المنسجمة مع فكرة المونولوج الصاعد عن وطن خاص للراقصين؛ وطن ينشده «حساسية عالية» بالمقدار نفسه الذي يسعى فيه إلى تحقيق ولو قفزة صغيرة في عالم المسرح الجسدي.‏
على مستوى آخر يسوق العرض انتقالات هادئة لإضاءة نصر سفر مع ديكور زهير العربي؛ مع الحفاظ قدماً على شكل آخر من مدارس الحداثة في الرقص المعاصر، إذ لم يعد يعتمد على مذهب «بينا باوش» في تقديم مزيج من «الفري والستيب دانس أو الهيب هوب» وحسب، بل عمل هذا « البيرفورمانس» على إيجاد منطقة أخرى للمعاصرة وبإيقاعات ولهجات مختلفة.

سامر محمد إسماعيل
دمشق